بسم الله الرحمن الرحيم
{ لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا مرحبا مليون ٥ ثئآياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ }.
اطلالة استلهامية :
حين يتصل الإنسان المحدود الضعيف المحتاج باللامحدود الخالق العظيم والواهب الكريم والمالك الحكيم فلا بد من واسطة عظيمة تربطه وحفظه وترّقيه معرفةً وسلوكاً وهذه واسطة الفيض الأعظم والوجود الأكمل الأقدس محمد وعترته الطاهرين .
قبسة تفسيرية :
يقول الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ( دامت بركاته ) في تفسيره الأمثل :
في هذه الآية يدور الحديث حول أكبر النعم الإلهية ، ألا وهي نعمة «بعثة الرسول الأكرم والنبي الخاتم» (صلىاللهعليه وآله وسلم) ، وهو في الحقيقة إجابة قوية على التساؤل الذي خالج بعض الأذهان من الحديثي العهد بالإسلام بعد «معركة أحد» وهو : لماذا لحق بنا ما لحق ، ولماذا أصبنا بما أصبنا به؟ فيجيبهم القرآن الكريم بقوله :(لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي إذا كنتم قد تحملتم كلّ هذه الخسائر ، وأصبتم بكلّ هذه المصائب ، فإن عليكم أن لا تنسوا أن الله قد أنعم عليكم بأكبر نعمة ، ألا وهي بعثه نبي يقوم بهدايتكم وتربيتكم ، وينقذكم من الضلالات وينجيكم من المتاهات ، فمهما تحملتم في سبيل الحفاظ على هذه النعمة العظمى والموهبة الكبرى ، ومهما كلفكم ذلك من ثمن ، فهو ضئيل إلى جانبها، وحقير بالنسبة إليها.
والجدير بالاهتمام ـ في المقام ـ هو أن هذه النعمة قد شرع ذكرها بكلمة «منّ» التي قد لا تبدو جميلة ولا مستحسنة في بادئ الأمر ، ولكننا عند ما نراجع مادة هذه اللفظة وأصلها اللغوي يتضح لنا الأمر غاية الوضوح ، وتوضيحه هو : ان المن ـ كما قال الراغب في مفرداته : هو ما يوزن به ، ولذلك أطلق على النعمة الثقيلة : المنة ، ويقال ذلك إذا كان ذلك بالفعل ، فيقال : من فلان على فلان إذا أثقله بالنعمة الجميلة الثمينة وهو حسن لا بأس فيه ، أما إذا عظّم أحد ـ في القول والادعاء ـ ما قام به من حقير الخدمات والأفعال والصنائع فهو في غاية القبح.
وعلى هذا فإن المن المستقبح هو الذي يكون استعظاما للصنائع والنعم في القول ، أما المنة المستحسنة فهي بذل النعم الكبرى والصنائع العظيمة.
لا مجال للعذر يوم القيامة :
قال تعالى {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ}.
يقول الشيخ جعفر السبحاني [دامت بركاته]: هذه ضابطة عامّة لكلّ من فوّت الفرصة، فيواجه نتيجة تفريطه.
إنّ القرآن الكريم يؤكّد على بعثة الرسل واحداً بعد الآخر، لتتمّ الحجّة على الناس، وتكون الحجّة البالغة لله تبارك وتعالى، قال سبحانه: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيماً)1، ويقول سبحانه: (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَاب مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى).
وهذه الآيات وأمثالها تدلّ على أنّ العقاب قبل البيان أمر قبيح عقلاً، وأنّ العقاب فرع إتمام الحجّة، وأنّ العقاب قبل البيان يورث وجود الحجّة للكفّار على الله سبحانه، خلاف العكس.
ثمّ إنّه سبحانه ـ عناية بهداية الناس ـ أنذرهم بطرق مختلفة وهداهم بوسائل متنوّعة، فالفطرة الإنسانية السليمة تهدي الإنسان إلى الرشد، وقد عزّزها بالعقل الذي هو المصباح المنير من الداخل، ثم عزّزها سبحانه ببعث الرسل وإنزال الكتب إلى أن أتمّ أمر النذر بوعظ العلماء وتصدّيهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى ذلك فربما يكون الإنسان معانداً لهذه النذر فيستحق الدعاء عليه بقوله تعالى: (فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ).
وقد استظهرنا في بحوثنا العقائدية أنّ لله سبحانه رسلاً منذرين في عامّة الربوع، غير أنّ الواصل من أسمائهم قليل بالنسبة إلينا، كما أنّ القرآن لم يستقص أسماءهم وحياتهم، يقول سبحانه: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ).
فالربوع المكتشفة أخيراً كأمريكا وغيرها لم تكن مختزلة عن عناية الله تعالى بدليل قوله سبحانه:(إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّة إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ).
ولو افترضنا أنّ أُمّةً من الأُمم حُرمت من الهداية عن طريق بعث الأنبياء وإنزال الحجج، فالحجّة عليها هي الفطرة السليمة والعقل القاضي بالحسن والقبح، فيجب عليها أن تسلك في الحياة على أساس هاتين الحجّتين .
وأمّا زمان الفترة بين نبيّ ونبيّ، كما هو الحال في الجزيرة العربية التي يقول فيها سبحانه: (لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ)، فلو كان معنى الآية خلوّ المجتمع العربي من الرسول والمنذر بعد النبيّ عيسى (عليه السلام)، فالحجّة عليهم أوصياء الرسل، مضافاً إلى ما تحكم به فطرتهم السليمة.
المحور الأول : صنعة الأنبياء وآثارها الخالدة :
هل يمكن للحياة أن تدوم بلا أنبياء وحجج ربانيين ؟
الجواب يمكن أن نصوّره لو تصورّنا حياة بلا قانون ، أو تصوّرنا قانون تابع لمصالح فئة متنفّذة ومسحوق معها الضعيف وعامة الناس ، فهل يسمى ذلك قانون أو قانون الهرج والمرج ؟!
إن أهم ما بعث به الأنبياء هي إحياء النفوس على الخير والمعروف والاستقامة لتنتظم الحياة سلامةً تكاملاً تراحماً سكينةً ، يبعث الناس لرب العالمين مطيعين لأوامره التي أثبتت الوقائع حقانيّتها وبطلان ما سواها ويكفينا أن نرى الغرب المادي ومنظومته الخادعة التي تغنّنت بحقوق الإنسان ولكنها أثبت أنها شعارات كاذبة لا تمت للواقع بصالة إلا بمقدار ما يخدم منظومتها ومصالحها .
- في الاعتقادات- للشيخ المفيد ص 92، 93:
يقول الشيخ رحمه الله: اعتقادنا
وأن الله تعالى خلق جميع ما خلق له ولأهل بيته عليهم السلام وأنه لولاهم لما خلق الله السماء والأرض، ولا الجنة ولا النار، ولا آدم ولا حواء، ولا الملائكة ولا شيئا مما خلق، صلوات الله عليهم أجمعين.
أمام هذا الواقع المرير الذي تعيشه البشرية من حروب ودمار ماذا يقدّم لنا منهج الأنبياء والحجج الربانيين ؟
1.صناعة الحياة :
حتى نستوعب عظمة دعوة الأنبياء لابد من تصوّر إنسان لا مشاعر لديه ولا يتجاوز همه ذاته وشهواته موافقة للعقل أو مخالفة ، فالحياة لا تساوق الطبيعة ولا يمكن انحصارها بالماديات الطبيعية فقط .
الأنبياء بعثوا ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور ومن الجهل إلى العلم ومن الأنانية إلى العطاء ومن اللذائذ البغيضة إلى الروابط النقية النزيهة .
فمن أهم صنائع الأنبياء صناعة الحياة الهانئة الهادفة لا المندفعة ولا المنكفئة .
لا يمكن أن نأمل في هداية الجميع، ولهذا واسى الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في مواضع عديدة من القرآن لشدة حزنه على من أصروا على الكفر. قال تعالى: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)، الكهف: 6، وقال أيضاً: (..فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)، فاطر: 8.
ومع ذلك، فإن هذه المسؤوليات، كإقامة دولة عادلة أو هداية البشرية جميعها، تتوقف على توفر الظروف الملائمة، وليست هي الوظيفة الأساسية التي أرسلوا لأجلها. فمهمة الأنبياء تظل، في جوهرها، هي تبليغ رسالات ربهم وبيان الحق للبشرية.
وهذا يتسق مع ما روي عن الإمام الباقر عليه السلام حين قال: «لما حضر النبي صلى الله عليه وآله الوفاة نزل جبرائيل عليه السلام فقال له: يا رسول الله، هل لك في الرجوع؟ قال: لا، قد بلغت رسالات ربي. ثم قال له: يا رسول الله أتريد الرجوع إلى الدنيا؟ قال: لا، بل الرفيق الأعلى...». أمالي الشيخ المفيد، ص53.
هكذا يتضح لنا أن دور الأنبياء الرئيسي يكمن في أداء رسالتهم السماوية بصدق وإخلاص، وليس في بناء الدول أو تحقيق الهداية الشاملة، إذ إن هذه الأمور تأتي وفقاً لشروط وأسباب تختلف عن تلك التي تتعلق بمهمتهم الجوهرية.
2. صناعة الإنسان :
صناعة الإنسان تنطلق من صناعة داخله لا صناعة المظهر وخواء الجوهر والبناء الحقيقي للإنسان ، فالطاعات ليست حركة روتينية وإنما صناعة موجود إنساني آدمي تملأ قلبه الحب والرحمة ، ولقد أجاد الفقيه العارف السيد السبزواري حين قال : اختلاف مراتب الطاعة بحسب مراتب المحبة والإخلاص:
"المراد من الطاعة - الّتي هي الوسيلة للوصول إلى الدرجات الرفيعة السامية والأفق القريب منه جلّ شأنه ، وهي الّتي أكّدت عليها الآيات الشريفة ودعى إليها الأنبياء والأولياء بألسنة مختلفة واهتمّوا بها ؛ لأنّها المبعث لتكريم الإنسان ونيله أشرف المراتب وأجلّ المقامات ، وهي الانقياد الكامل والامتثال مع الإخلاص لجلب رضا الحقّ وترك ما سواه .
ولها مراتب كثيرة - بل متفاوتة - حسب إخلاص العبد ومقام العبوديّة ، بل حسب درجات الحبّ والمحبّة له جلّت عظمته ، ففي الأثر : « إنّ اللّه تعالى أودع أنوار الملكوت في أصناف الطاعات » . فأعلى مراتبها قتل النفس في الحقيقة وقمع هواها الّتي هي حياتها ، قال تعالى : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها * وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [ سورة الشمس ، الآية : 9 - 10 ] ، وبالخروج عن عالم المادّة . ومن مراتبها تسليم النفس إليه تعالى ودوام المراقبة لها ، كما ورد ذلك في روايات مستفيضة عن المعصومين عليهم السّلام وفي الدعوات المأثورة عنهم ، وفي الأثر : « كنّا في طريق مكّة ، فإذا بشاب قائم في ليله يناجي ربّه ويقول : يا من شوقي إليه ، وقلبي محبّ له ، ونفسي له خادم ، وكلّي فناء في إراداتك ومشيئتك ، فأنت ولا غيرك ، متى تنجيني - إلى آخره - قلت له : رحمك اللّه ، ما علامة حبّه ؟ قال : اشتهاء لقائه . قلت : فما علامة المشتاق ؟
قال : ليس له قرار ولا سكون في ليل ولا نهار من شوقه إلى ربّه . قلت : فما علامة الفاني ؟ قال : لا يعرف الصديق من العدو ، ولا الحلو من المرّ من فنائه عن رسمه وجسمه . قلت : فما علامة الخادم ؟ قال : إنّه يرفع قلبه وجوارحه وطعمه من ثواب اللّه - إلى آخره » ، وعن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه وآله : « لا يكون أحدكم كالعبد السوء إن خاف عمل ، ولا كالأجير السوء إن لم يعط لم يعمل » . وعن سيد العرفاء عليّ عليه السّلام :
« إلهي عبدتك لا خوفا من نارك ولا طمعا في جنّتك ، بل وجدتك أهلا لذلك فعبدتك » .
وبالطاعة الحقيقيّة ينال الإنسان الدرجات الرفيعة والمراتب الشريفة ، ويتجاوز عن حدّ الكمال ويصل إلى درجة التكميل ، فتكون له المعيّة في الدرجة لا في الاتّحاد - كما في بعض الروايات - لأنّ التساوي في كلّ جهة معه محال ، كما ثبت في الفلسفة الإلهيّة .
كما أنّ العصيان والتجرّي بالإعراض عن طاعة الرحمن والإقبال على طاعة الشيطان ، يصل الإنسان إلى أسفل الهاوية ومنتهى الهلاك ، وإنّ له أيضا مراتب ، وعن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه وآله : « كلّ أمتي يدخلون الجنّة إلّا من أبى . قيل : يا رسول اللّه ، ومن أبى ؟ قال : من أطاعني دخل الجنّة ، ومن عصاني فقد أبى » ، فإنّ إطاعته إطاعة اللّه تعالى ، كما أنّ عصيانه كذلك ، كما تقدّم ."
والعلم الأول هو مطلع هذه الخيرات، وهو عبارة عن الإيمان والتصديق بأن الذنوب سموم مهلكة، وإذا أشرق على القلب ثار الندم الباعث على ما تقدم. وكثيراً ما يطلق اسم التوبة على معنى الندم وحده ويجعل العلم كالسابق والمقدمة والترك كالثمرة والتابع، وبهذا الاعتبار قال صلى الله عليه وآله وسلم: الندم توبة[1]. إذ لا يخلو الندم عن علم أوجبه وأثمره وعن عزم يتبعه ويتلوه.
تنبيه الخاطر: المعذور بن سويد دخلنا على أبي ذر بالربذة فإذا عليه برد وعلى غلامه مثله، فقلنا لو أخذت برد غلامك إلى بردك كانت حلة وكسوته ثوبا غيره قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت
يده فليطعمه مما يأكل وليكسه مما يلبس، ولا يكلفه ما يغلبه، فان كلفه ما يغلبه فليعنه.
أبو مسعود الأنصاري: كنت أضرب غلاما فسمعني من خلفي صوتا. اعلم أبا مسعود اعلم أبا مسعود إن الله أقدر عليك منك عليه، فالتفت فإذا هو النبي صلى الله عليه وآله فقلت يا رسول الله هو حر لوجه الله، فقال: أما لو لم تفعل للفعتك النار.
مر بعضهم براع مملوك فاستباعه شاة فقال ليست لي فقال أين المالك؟ فقال أين الله؟ فاشتراه فأعتقه، فقال: اللهم قد رزقتني العتق فارزقني العتق الأكبر.
أراد رجل بيع جارية فبكت فسألها فقالت: لو ملكت منك ما ملكت مني ما أخرجتك من يدي فأعتقها.
عنه عليه السلام عاتبوا أرقاكم على قدر عقولهم.
في الحديث النبوي: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة تكفر ما بينهن إن اجتنب الكبائر».
3. صناعة الأمل :
إن من وظائف الأنبياء صناعة الأمل والتفاؤل فالتوبة والرجوع بعد محاسبة النفس تصنع الإنسان المستعصم بالله والسائر في طريق الكمال لتتجه البشرية المنصفة من خلاب العودة للنفس واتباع الأنبياء والحجج الربانيين المعصومين لاتباعهم وتعميم هذه الصورة الناصعة وتتجه البشرية للعصمة الاختيارية ( ليخرجهم من الظلمات إلى النور ) ( وألو استقاموا على الطريقة ) ( ولو آمن أهل القرى ) .
إنّ الأنبياء والأئمّة من أهل البيت عليهم السّلام معصومون من الذنب والخطأ تماماً ، وعصمتهم كما ذاتي وتكامل سائر الموجودات بهم ،
وكما يقول بعض الكتّاب :
هناك أدلّة متعدّدة على ذلك من الكتاب والسنّة والعقل والإجماع فمنها :
أنّ الناس مكلَّفون بالتمسّك بهم والأخذ منهم ، فابتلاؤهم ـ والعياذ بالله ـ بالخطأ والغفلة والنسيان والسهو كابتلائهم ـ والعياذ بالله ـ بالذنوب والمعاصي ، كلّ ذلك يوجب سقوط أقوالهم وأفعالهم عن الحجيّة ، ويفقد الناس بسبب ذلك الوثوق بما يقولون ويفعلون ، لأنّ احتمال الخطأ والنسيان والسهو حينئذٍ يجري في كلّ فعل من أَفعالهم وكلّ قول من أقوالهم ، وهذا لا ينسجم مع تكليف الناس باتّباعهم والتمسّك بهم.
إذاً فأمر الله تبارك وتعالى الناس باتّباع الأنبياء والأئمّة عليهم السّلام يستلزم لا محالة أن يكون كلّ قول وفعل يصدر منهم مطابقاً للواقع ولُبّ الحقيقة وأن يكونوا بعيدين كلّ البُعد عن كلّ ذنب وخطأ وسهو ، وإِلّا فلو كان من المحتمل أن يخطأ النبيّ أو الإمام فمن أين يعرف الناس أنّ ما يقوله أو يفعله هل هو صحيح ومطابق للواقع كي يأخذوا به أم هو خطأ وذهول وغفلة منه ؟ ومن هنا يتّضح لك أن ما يقوله البعض من أنّهم معصومون في مجال تبليغ الأحكام الدينيّة فقط ومعصومون من الكذب خاصّة كلام غير صحيح ، فنحن كيف نعرف أن ما يقوله النبيّ أو الإمام أو يفعله هل هو مرتبط بالدين كي نأخذ به أم هو غير مرتبط بالدين كي لا يجب علينا أخذه ؟ لا مجال لنا لمعرفة ذلك إلّا عن طريق النبيّ أو الإمام نفسه ، فإذا كان من المحتمل خطأه وسهوه وذهوله ـ والعياذ بالله ـ فسوف ينسدّ على الإنسان باب أخذ الدين واتّباعه ، فالعقل يحكم إذاً بضرورة إنسداد باب احتمال الخطأ والذهول تماماً على الأنبياء والأئمة عليهم السلام في كلّ أقوالهم وأفعالهم.
4.صناعة الأتباع المؤثرين :
لنا أن نرى كمالات هذا الدين في كمالات الأصحاب الملاصقين الصادقين الأوفياء العارفين بعظمة رسول الله (ص) ، فهم نموذج حي وجاذب للدين ، يري البعض أن أبا ذر كان موحداً قبل الإسلام، وكان يعبد الله قبل ثلاث سنوات من بعثة النبي(ص).[١٣] ويعدّه ابن حبيب البغدادي فيمن كان يرى بحرمة الخمر والأزلام في الجاهلية،[١٤] وكان من أوائل من آمن برسول الله(ص) بعد ظهور الإسلام. وفي رواية عن أبي ذر يقول فيها: كنت رابع الإسلام أسلم قبلي ثلاثة، وأنا الرابع أتيت نبي الله(ص)، فقلت: السلام عليك يا رسول الله. أشهد أن لا اله الا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فرأيت الاستبشار في وجه رسول الله(ص).[١٥]
ويروي ابن عباس قصة إسلام أبي ذر يقول : لما بلغ أبا ذر مبعث رسول الله(ص) بمكة قال لأخيه أنيس: اركب إلى هذا الوادي، واعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله، ثم ائتني.
فانطلق الأخ حتى قدم مكّة، وسمع من قوله، ثم رجع الى أبي ذر ... فتزود، وحمل شنة له فيها ماء حتى قدم مكة، فأتى المسجد، فالتمس النبي(ص) وهو لا يعرف، وكره أن يسأل عنه حتى أدركه الليل، فاضطجع، فرآه علي بن أبي طالب (ع) فقال: كأنّ الرجل غريب. قال: نعم. قال: انطلق إلى المنزل، وتذكر الرواية أنّه ذهب مع علي (ع).
وتكررت هذه الدعوة ثلاث ليال، وفي اليوم الثالث قال له علي(ع): ألا تحدثني ما الذي أقدمك هذا البلد. قال: إن أعطيتني عهداً وميثاقاً؛ لترشدني فعلت ففعل فأخبره علي (ع) أنّه نبيّ، وأنّ ما جاء به حق، وأنه رسول الله(ص). فإذا أصبحت فاتبعني، فأني إن رأيت شيئاً أخاف عليك قمت كأني أُريق الماء، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل معي مدخلي قال: فانطلقت اقفوه حتى دخل علي(ع) على رسول الله(ص)، ودخلت معه، وحييت رسول الله(ص) بتحية الإسلام، فقلت: السلام عليك يا رسول الله - فكنت أوّل من حياه بتحية الإسلام - فقال: وعليك السلام، من أنت؟ قلت: رجل من بني غفار فعرض عليّ الإسلام، فأسلمت، وشهدت أن لا اله الا الله، وأن محمداً رسول الله.[١٦]
يتبع الحلقة الثانية : التافهون والحياة