البحوث

  • المجتمع

الخميس، 11 أغسطس 2016

تجليات الرحمة المحمدية في العلاقات الإنسانية
الشيخ حسام سعيد آل سلاط

كأن ميلاد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله سفينة كانت تمخر في بحور التاريخ لتقف عند أمم غارقة تنتظر منقذاً فانتشلتهم من غرق وشيك بل وهلاك وبيل ،،،، هكذا كنت يارسول الله ملاذاً وحصناً لكل الأمم ..


من أعظم الأمور الملفتة للنظر والداعية للتأمل العميق هو حجم العطاء الإلهي للبشرية إذ بعث فيهم رسولاً منهم ، فهل تستحق الأمة هذا العطاء الثر ، فأفضل الخلائق وصفوة البشر وواسطة كل فيض رباني نازل على الخلائق أجمعين بل كل ذرة في الكون ببركته هو النبي المبعوث ، إذ نجد ذلك الرسول الكريم صلى الله عليه وآله يصفه القرآن بأعظم النعوت وأرقاها ، فبنظرة فاحصة نجد ثقل المسؤوليات الملقاة على عاتق النبي والمقامات التي حباه الله تعالى بها :


§       وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين  :

إن البيان ليعجز عن سبر غور هذه الآية الشريفة ولكن نرتشف من عبير التدبّر بمقدار سعتنا لا بمقدار بطونها السبعة وما بعدها .
لو تخيلنا رجلاً أرسل لإنقاذ أممٍ وعيالهم في أودية سحيقة ينحدرون فيه وكلهم موشك على الهلاك وهم ساهون عن مصيرهم والمرسل لهم حريص على انقاذِ كل فرد فرد دون تمييز وتحذير كل شخص بكل وسيلة ممكنة ، ونظره للجميع نظر المشفق بل أعظم من الأم الرؤوم على أبنائها ، عندما نتصور ذلك نرجع للروايات الشريفة لنجد شواهد حية دالة عليها ، فمما ورد عن سيد الوصيين عليه السلام أنه قال :

(أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَطُولِ هَجْعَةٍ مِنَ الأمَمِ، وَاعْتِزَامٍ مِنَ الْفِتَنِ، وَانْتَشَارٍ مِنَ الأمُورِ، وَتَلَظٍّ مِنَ الْحُرُوبِ، والدُّنْيَا كَاسِفَةُ النُّورِ، ظَاهِرَةُ الْغُرُورِ، عَلَى حِينِ اصْفِرَارٍ مِنْ وَرَقِهَا، وَإِيَاسٍ مِنْ ثَمَرِهَا، وَأغْوِرَارٍ مِنْ مَائِهَا، قَدْ دَرَسَتْ أعْلامُ الْهُدَى، وَظَهَرَتْ أَعْلاَمُ الرِّدَى، فَهِيَ مُتَجَهِّمَةٌ لأهْلِهَا، عَابِسَةٌ فِي وَجْهِ طَالِبِهَا، ثَمَرُهَا الْفِتْنَةُ وَطَعَامُهَا الْجِيفَةُ) نهج البلاغة الخطبة ٨٩
وشواهد رحمته وعطفه أكبر من أن تحيط به الكلمات الروايات نقلت لنا نتفاً من تلك الرحمة وما ضع كثير إما إحراقا لمرويات كتبها المسلمون اعتزازاً بعظمته فشدد الأولون بعدم تدوينها وثنّوا بحرقها ، وإما رهبة من سطوات المنع والمعاقبة ، ولكن لو وقفنا عند موقفين يحملان الكثير من الدلالات لكفتنا عن طول الكلام ، فمن ذلك أنه كان يتألف الناس بالاحسان والامتنان ، فتارة يؤتى بالأسرى فيعلم المسلمين كيف يكون العفو صانعاً لروح المحبة والرحمة وخلق فكرٍ جديد يكون بعد الجحود مسالماً وبالعطف من قلب النبي صلى الله عليه وآله يتحول إلى مسلم ٍ وعاشقٍ لهذه الروح الطاهرة التي لا تريد جزاءً ولا شكوراً وإنما حرصها على نجاة الناس وسعادتهم .
فعندما يعفو عن سمانة بن حاتم الطائي لأن العفو شيمة الرحماء كيف وهي ابنة عزيز ذلت ،
ففي ( السيرة الحلبيّة ) روى الحلبيّ أنّها قالت: يا محمّد، إن رأيتَ أن تُخلّيَ عنّي ولا تُشمتَ بنا أحياء العرب، فإنّي ابنة سيّد قومي، وإنّ أبي كان يحمي الذمار ويفكّ العاني، ويُشبع الجائع ويكسو العاري، ويُقري الضيف ويُطعم الطعام، ويُفشي السلام، ولم يَردَّ طالبَ حاجةٍ قطّ، أنا ابنة حاتم طيء. فقال لها: يا جارية، هذه صفة المؤمن حقّاً، لو كان أبوكِ مسلماً لَترَحّمنا عليه، خلّوا عنها؛ فإنّ أباها كان يحبّ مكارم الأخلاق ».
وهكذا تؤمن قبيلتها لما رأوا من كرم العفو والصفح وحسن الجوار وفوق ذلك الكرم النبوي العظيم صلى الله عليه وآله .

فما أحوجنا لمثل هذه الخصال الكريمة في تعاطينا مع بعضنا لنمثل الأنموذج الحي للمقتدين والمتمسكين بالثقلين الكتاب والعترة ، ومن مصاديق هذا الاقتداء :
1-    الحياة الزوجية :
كثيراً ما يظن البعض أنه بمجرد اجراء عقد النكاح يجب أن يتوافق الطرفان في كل التطلعات والأولويات والطبائع ، وهذا خلاف الطبيعة البشرية المبتنية على الاختلاف , وقد يصل الأمر في بعض الأحيان إلى النزاع والشقاق وتبني سياسة التصيّد وتجميع الأخطاء .
والقرآن يشير إلى قيمة الزوجية على اعتبار أنها من آياته في خلقه ويشير إلى قاعدة العفو والصفح والانصاف بقوله تعالى : ( ولا تنسوا الفضل بينكم ) .
إن الملاحظ كثرة المشاكل الزوجية وتصاعدها لأن كل طرف منهما يريد أن يتصرف وفق رأيه وإن كان ذلك خلاف المصلحة الزوجية فضلاً عن كونه مخالفة شرعية ، من هنا تنشأ المشاكل ، عدا عن العشوائية والاستبداد من أحد الطرفين أو كليهما مما يقود إلى موت العلاقة واقبارها بالطلاق والقضاء على أسرة يمكنها أن تتسامى قيمياً واجتماعياً ولكنه غياب الانصاف والرحمة والعفو .

2-    العلاقات الاجتماعية :
من ميزات المجتمعات الواعية والفتية هي التواد والتراحم ، ومما يلاحظ بأن المجتمعات الولائية تحكمة القيم النبوية والعلوية في علاقاتها وأهدافها ، وهذا ما كان عليه آباؤنا وأجدادنا طوال الأزمنة السالفة إلا أن السنين الأخيرة وبعد دخول الحياة التقنية والتي أثرت على الحياة الاجتماعية بصورة واضحة وأزاحت وزاحمت التواد والتراحم ليحل محلها ببركة التقنية الحديثة التواصل الصوري من خلال تقنيات لا تعبّر بنفس المستوى من المشاعر والأحاسيس عند اللقاء المباشر ، فضلاً أن البعض من الناس – ومع شديد التأسف – ربما تكلست لديه الأحاسيس لكثرة ما يرى ويتابع عبر شاشة هاتفه من مشاهد القتل والدماء فأضحى لديه الأحاسيس والمشاعر مجرد اصبع يحركه وحروف يضغط عليها دون أن يلتفت لمشاعر الآخرين في تأثير حروفه على المتلقي والقارئ ، وربما مما يزيد في الأمر سوءً أن البعض قد يسطر كلمات لا يحسب لها حساباً قيمياً أو اجتماعياً وإنما ينظر لها من زاوية واحدة فقط هي نظرته الشخصية ولا يعلم بأن حروفه قد توجد ارباكاً اجتماعياً أو فتنة لا يعلم إلا الله تعالى نتائجها ،
إننا عندما نخط بأناملنا الحروف ينبغي أن نرى أثرها قبل نشرها أو تعميمها وهذا ينطق على كل وسائل التواصل الاجتماعي .
وفي هذه الجنبة الاجتماعية الكثير من الأطروحات واللفتات ولكن ضيق المقام يحثنا على تركها في سنبلها إلى وقت وكاتب آخر قد يستعرضها بالتفصيل .


وختام القول :
مقدار اقترابنا من قيم النبي وعترته الطاهرة يكون بمقدار تمثل سيرتهم وكوننا منهم ( ومن تبعني فإنه مني ) .

إن علينا كمتدينين أن نجسد القيم النبوية في أنفسنا ونغمر بها قلوبنا لتثمر عطاءً يانعاً في سلوكنا وعلاقاتنا .

وله الحمد أولاً وآخراً أن جعلنا من الأمة المرحومة ووفقنا للإيمان بالنبي وعترته الطاهرين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق