الوضوح الفكري في التفاعل = الشخصية الجديدة.
الوضوح والتفاعل:
إن الغاية من الحج هو خلق شخصية جديدة مختلفة عن سابقتها فكيف يكون التغيير , ومن أين يبدأ الحاج ؟ وهل المستوى الإيماني الذي عنده كافٍ أم يجب أن يكون في ارتقاء دائم تصاعدي ؟
قاعدة التغير في حياة البشر تبدأ بالفكر , ولا يمكن أن يحدث تغير في صميم مظاهر الحياة البشرية إذا لم يسبق هذا التغيرّ وضوح فكري, وهذا من ميزات الإنسان...
فالإنسان ليس مادة جامدة يكفي لتغيرّ صيغته وشخصيته, - طرق وسحب وباقي الأعمال التي تجري على المادة – حتى يغدو الإنسان في صيغة ٍ جديدة وبمدّة قصيرة من الزمن .
ولا هو كالحيوان الذي بإمكانه أن يتعلّم من خلال تكرار مستمر وطويل لعملية مُعينة, وبدون أي إداراك لتفاصيل هذه العملية وأبعادها.
إن الإنسان وحده الذي يملك قابلية الإدراك العقلي العالية, ومن خلال هذا الإدراك (علمي أو فلسفي ) ينطلق في تعامله مع باقي الموجودات, وأن التعامل يتبدّل تبعاً للفكر المتبدّل أو الوضوح المتغيرّ. ولصياغة شخصية معينة, لابُد َّ من الاستناد على قاعدة فكرية واضحة أولاً.
والتفاعل مع هذه القاعدة الفكرية من خلال عدّة ممارسات ثانياً... لتتشرب الشخصية بهذه القاعدة الفكرية وتغدو سلوكياتها وتعاملاتها منطلقة منها.
مع الأخذ بعين الاعتبار الزمن ورغبة الإنسان في التغير.
الوضوح الفكري في التفاعل = الشخصية الجديدة.
ولصياغة الشخصية الإسلامية.. فلابد أن تستند على وضوح جيد بالله تعالى وجوده وصفاته و أوامره ونواهيه .
والخلاصة بالنسبة لهذه الفكرة عندما نريد أن نطبقها على فريضة الحج هو التالي:
t الحج :
صورة جيّدة في استناده على هذين العاملين الوضوح والتفاعل في تغيّر المسلم وصياغة شخصيته.
فاستند على الألفاظ والمشاهد في توضيح القاعدة الفكرية... وكانت الأعمال الكثيرة صورة من التفاعل العميق الذي يركز في النفس الأوليات الأساسية للقاعدة الفكرية . [1]
إن الحج يتضمن الكثير من الأقوال والأعمال والمناظر أو المشاهد التي هي أساس تغير منهجية وفكر وروح الحاج.
إن كل مشهد وكلمة وفعل وعمل لا يخلو من عامل تغير في نفس وعقل وقلب الحاج.
كثيرون يذهبون إلى الحج ولكنهم لا يقفون عند هذه العوامل لينهلوا منها ويستفيدوا من بركاتها في سمو الروح وصفاء الباطن , وتصفية العقل من المكدرات الدنيوية .
بالوقوف على هذه العوامل يتضح ما الذي جعل بعض الحجاج يتغيرون وغيرهم يرجع كما هو دون تغيّر.
إن هنالك نصيباً وافراً في هذه العوامل التي تجتمع في عمل ٍ واحد وفي أيام معدودة لتنسج شخصية الحاج من جديد.
نقل لي أحدهم أن أحد الحجاج كان معهم , ولما وصلوا إلى رمي الجمار رفض أن يرمي مع الحجاج قائلاً : أليس هذا نوع من الجنون , ثم ترك الحج وعاد إلى بلاده دون أن يكمل الأعمال , لماذا ؟
لأنه لم يفهم ما هو الحج .
بعد أن استعرضنا العلاقة بالله تعالى وكيف تكون طريقة تلقي أوامره , و ماهي الأشياء المؤثرة في الإنسان في عبادة الحج , وبعد أن علمنا أن كل أوامر الله سبحانه خيرٌ للإنسان وكذلك نواهيه , فيجب أن نرجع إلى كلام الله تعالى لنقف على موقع الحج في القرآن الكريم و ما العوامل المؤثرة في تغيير شخصية الحاج.
من آيات الحج في القرآن :
قال تعالى: } وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ { . [2]
الطلب المذكور في الآية بالحج يستفاد منه مطلوبية الحج شرعاً, وإلا لكان الطلب لغواً , والمطلوب الحج بما يشمل من أعمال وأقوال وحركات .
والأمر الآخر أن في الحج منافع على مختلف الأصعدة و الأبعاد وهذا يدل على إحدى فلسفات تشريع الحج .
بعض عوامل التغيير في عبادة الحج:
لتحقيق غرض الحج في تغير النفس والأخذ بها لكي تكون نفساً عابدة منقادة ملتزمة بأوامر الله كان في الحج جملة أمور قوية التأثير تهدف كلها لخلق هذه الشخصية الرائعة:
1- العامل الأول: الأعمال.
في الحج أعمال كثيرة , كالإحرام والطواف والسعي والرمي والهدي.. وأبرز ما يلاحظ في هذه الأعمال:
أولاً: كثرتها وتعددها وتنوّعها .
ثانياً: دقتها. فللإحرام التزامات تبلغ خمسة وعشرين التزاماً. وللطواف صيغة محددة وكذلك للسعي وباقي الأعمال كالرمي والهدي.
ثالثاً: صعوبتها بمعنى أنها تتطلب جهداً عملياً ليس بقليل من تحمل البرد أو الحر وعناء السير وعطاء من النفس والمال وذلك يبرز في الذبح والمبيت في منى مثلاً.
الأعمال: تخلق في نفسية الشخص الممارس لها صورة مليئة بالفاعلية والحركة الهادفة والدقيقة, فالهرولة والطواف وصعود مرتفع وتحمّل عناء المبيت يخلق في النفس صورة الإيمان الحق... الإيمان الفعّال الحي الذي لا يرتضي جموداً أو خضوعاً أو ابتعاداً عن واقع الحياة وعنائها بل صورة حيّة فعّالة متحركة عاملة وخاضعة لله وهذا مردود أعمال الحج.
2- العامل الثاني: الألفاظ .
المؤثر الثاني في العملية التغيرية في شخصية الحاج الألفاظ التي يرددها على طوال فترة الحج والتي تدوم عدّة أيام.
ألفاظ تعبّر عن شعارات وأفكار تمثّل القاعدة الفكرية لشخصية الحاج والتي منها ينطلق في تحرّكه في مختلف مجال حياته , يرددها لكي تتعمّق في نفسه فتخلق فيه حساً إيمانياً عميقاً يؤثر فيه مستقبلاً إن تعهدها ورعاها.
من هذه الألفاظ التلبية, والأدعية كدعاء الإمام الحسين والإمام السجاد u والتسبيحات الأربع , وأدعية الطواف والسعي.
3- العامل الثالث: المشاهد .
المشهد شكل مادي ارتبطت به حادثة أو فكرة معينة, وقيمة المشهد بما يحمله من فكرة أو حادثة مهمة , وكلّما أمعن الإنسان النظر في المشهد وفكّر فيه تجلّت الفكرة وبُعْد الحادثة من خلاله.
t الكعبة مثلاً على المشاهد:
جسـم مــادي مكعــب ارتبــــط بــه معنى حــــرم الله أو بيـت الله -كرمز – فأصبح هذا الشكل مُقدساً ويحمل معنى كبيراً وعظيماً هو عظمة وجلال وقدسية الله وحرمة انتهاك أوامره.
وكلما أمعن الحاج النظر في الكعبة وفكّر فيها أدرك هذا المعنى وتعمق في نفسه هذا المفهوم ( يُستحب إطالة النظر إلى الكعبة ) .
فقد ورد عن أمير المؤمنين uأنه قال : (من نظر إلى الكعبة عارفاً بحقها غفر الله له ذنوبه وكُفِي ما أهمه) . [3]
وورد عن مولانا الصادق u أنه قال : ( من نظر إلى الكعبة لم يزل يُكتبُ له حسنة ويُمحى له سيئة حتى يصرف بصره عنها ) . [4]
4- العامل الرابع : الثواب و العقاب :
إنّ معرفةَ الحاجِ بثواب كل عمل أمره الله تعالى به , وكل نهيٍ نهاه الله عنه في الحج يساعد الحاج على الإخلاص أكثر خصوصاً إذا حاول التفقّه في معني الأخبار الواردة فإنه وإن كان وحده غير كافٍ إلا أن السعي لمعرفة جانبي الثواب و العقاب يرسّخان لدى الحاج الشوق لاغتنام فرصة وجوده في الحج
واكتساب الثواب , وكلما كان مخلصاً في عمله أكثر و رغبته للقرب من ربه أكثر كان تأثير الحج عليه أعظم , فهي نافعة لاشك.
5- العامل الخامس: الإرشاد و التوجيه و الرفقاء:
ما من شك أن من يجد شخصاً يرشده إلى ما يقرّب إلى الله تعالى و ينهاه و ينبهّه إلى ما يُغضب الله تعالى من التوفيقات العظيمة التي يحتاجها الإنسان في حياته الدنيوية , فقد ورد في بعض الأخبار عن الإمام السجاد عليه السلام: (هلك من ليس له حكيم يرشده) . [5]
وفي خبر آخر عن الإمام الهادي عليه السلام : (يحتاج المؤمن إلى : توفيق من ربه , وواعظٍ من نفسه , وقبول ممن ينصحه).[6]
فإن هذه قاعدة عامة ولكنها في الحج لا يمكن الاستغناء عنها بحال من الأحوال , فإذا كان من يرشد الحجيج على علمٍ و دراية بالنواحي الروحية مضافاً للمسائل الفقهية فإنّ ذلك له أكبر الأثر في طي الحاج للطريق إلى الله سبحانه , فالحاج مصدر تلقّي المعرفة عنده تكون شبه محصورة بالمرشدين و الضيوف من العلماء مضافاً لما يملك الحاج من معرفة سابقة ووسائل المعرفة التي يستقي منها , كالكتب و غيرها , لكن للإرشاد أكبر الأثر خصوصاً لمن يذهب للحج لأول مرة , فإن منبعه الأول الإرشاد, إذن إذا امتزجت المعرفتان الروحية و الفقهية لدى الإرشاد كان ذلك أدعى في التأثير مع ضميمة تعامل الإرشاد وانفتاحه على الحاجٍ.
ولا أُغفل هنا نقطةً مهمةً جداً وهي رفقاء الحاج في السكن
والمشاعر فإنّ لهم أثراً عظيماً , فلو كانت تلك العوامل كلها موجودة , ولكن رفقاء الحاج الذين معه في غرفته وفي أدائه للنسك من أهل اللهو وإضاعة الوقت فيما لا قيمة له وهو ذائبٌ معهم في الغفلة لم يكن للإرشاد ذلك التأثير المتوقّع .
الخلاصة:
إن الإنسان يصبح من خلال تعرّضه لهذه المؤثرات والعوامل مجتمعة أو منفردة ولمدة ليست بقصيرة وبصورة دائمة ومستمرة ليلا ً ونهارا ً وبمختلف حالاته الانفعالية سيؤدي به بالتالي بعد هذه الدورة الفكرية الجهادية لأن يكون أهلا ً لحمل وسام ولقب (الحاج ) بأبعادها المختلفة وأمسى ينطلق في تعامله بمستوى آخر وبمنظار وتعامل يختلف اختلافاً تاماً عن حالته قبل الحج و كأنه وُلِد َ أو جاء إلى الحياة من جديد وهذا دليل غفران الذنوب بعد هذه العملية التغيرية.
إن الكثير من هذه الأعمال , الغرض منها تجسيد طائفة من الذكريات البنّاءة من حياة وسيرة سيدنا إبراهيم u, ومجموعة من الأمور المعنوية والأخلاقية التي تؤدى بسلسة من الأعمال بشكل نموذجي ومنظم ؛وليس الغرض منها عبادة الحجر والطين والجبل .
من هنا كان أصناف الحجاج تبعاً لمعرفتهم ودرجة علمهم بأسرار الحج وتقواهم 0
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق