بسم الله الرحمن الرحيم
قبس من جماليات الإمام الرضا (ع)
قال تعالى : ( الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقنهم ينفقون (3) والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون (4) أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون )
#اطلالة استلهامية :
يمثل عنصر الإيمان بالغيب أحد الركائز الهامة في الأديان السماوية ، وفي الإسلام احتل هذا العنصر الصدارة وتفرعت عليه كثير من الاعتقادات ومنها الإمامة .
كلما تضاعف الإيمان بعنصر الغيب في حياة المؤمن زاد من الله تعالى قرباً ومعرفةً وثباتاً .
الإمامة بما هي منصب رباني هو نظام للملة وأمان من الفرقة حيث جعله الله تعالى طريقاً أوحدياً لبلوغ رضاه والفوز بقربه .
من أهم المظاهر التي تجلت في حياة ومسيرة الإمام الرضا (ع) هي عظمة عالم الغيب إذ كان يظهر ويتضاعف عبر العلم اللدني في كل ما يصدر عن الإمام الرضا (ع) من معارف أٌقر الجميع بأنها ليست من العلوم التحصيلية بل مصدرها غيبي إلهي .
أعظم المعاجر الرضوية هي معجزة العلم حيث كانت الدولة العباسية بكل تشكيلاتها تسعى وترصد ميزانية ضخمة لإطفاء نور الإمام الرضا (ع) فكان تجلي نور شمس الشموس .
#قبس من التفاسير :
يقول الشيخ مكارم في تفسيره الأمثل : " الغيب والشهود " نقطتان متقابلتان، عالم الشهود هو عالم المحسوسات، وعالم الغيب هو ما وراء الحس. لأن " الغيب " في الأصل يعني ما بطن وخفي.
وقيل عن عالم ما وراء المحسوسات " غيب " لخفائه عن حواسنا. التقابل بين العالمين مذكور في آيات عديدة كقوله تعالى: عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم (1).
الإيمان بالغيب هو بالضبط النقطة الفاصلة الأولى بين المؤمنين بالأديان السماوية، وبين منكري الخالق والوحي والقيامة. ومن هنا كان الإيمان بالغيب أول سمة ذكرت للمتقين.
المؤمنون خرقوا طوق العالم المادي، واجتازوا جدرانه، إنهم بهذه الرؤية الواسعة مرتبطون بعالم كبير لا متناه. بينما يصر معارضوهم على جعل الإنسان مثل سائر الحيوانات، محصورا في موقعه من العالم المادي. وهذه الرؤية المادية تقمصت في عصرنا صفات العلمية والتقدمية والتطورية!
لو قارنا بين فهم الفريقين ورؤيتهما، لعرفنا أن: " المؤمنين بالغيب " يعتقدون أن عالم الوجود أكبر وأوسع بكثير من هذا العالم المحسوس، وخالق عالم الوجود غير متناه في العلم والقدرة والإدراك، وأنه أزلي وأبدي. وأنه صمم هذا العالم وفق نظام دقيق مدروس. ويعتقدون أن الإنسان - بما يحمله من روح إنسانية - يسمو بكثير على سائر الحيوانات. وأن الموت ليس بمعنى العدم والفناء، بل هو مرحلة تكاملية في الإنسان، ونافذة تطل على عالم أوسع وأكبر.
بينما الإنسان المادي يعتقد أن عالم الوجود محدود بما نلمسه ونراه. وأن العالم وليد مجموعة من القوانين الطبيعية العمياء الخالية من أي هدف أو تخطيط أو عقل أو شعور. والإنسان جزء من الطبيعة ينتهي وجوده بموته، يتلاشى بدنه، وتندمج أجزاؤه مرة أخرى بالمواد الطبيعية. فلا بقاء للإنسان، وليس ثمة فاصلة كبيرة بينه وبين سائر الحيوانات (1)!
ما أكبر الهوة التي تفصل بين هاتين الرؤيتين للكون والحياة! وما أعظم الفرق بين ما تفرزه كل رؤية، من حياة اجتماعية وسلوك ونظام!
الرؤية الأولى تربي صاحبها على أن ينشد الحق والعدل والخير ومساعدة الآخرين. والثانية، لا تقدم لصاحبها أي مبرر على ممارسة الأمور اللهم إلا ما عاد عليه بالفائدة في حياته المادية. من هنا يسود في حياة المؤمنين الحقيقيين التفاهم والإخاء والطهر والتعاون، بينما تهيمن على حياة الماديين روح الاستعمار والاستغلال وسفك الدماء والنهب والسلب. ولهذا السبب نرى القرآن يتخذ من " الإيمان بالغيب " نقطة البداية في التقوى.
يدور البحث في كتب التفسير عن المقصود بالغيب، أهو إشارة إلى ذات الباري تعالى، أم أنه يشمل - أيضا - الوحي والقيامة وعالم الملائكة وكل ما هو وراء الحس؟ ونحن نعتقد أن الآية أرادت المعنى الشامل لكلمة الغيب، لأن الإيمان بعالم ما وراء الحس - كما ذكرنا - أول نقطة افتراق المؤمنين عن الكافرين، إضافة إلى ذلك، تعبير الآية مطلق ليس فيه قيد يحدده بمعنى خاص.
بعض الروايات المنقولة عن أهل البيت (عليهم السلام) تفسر الغيب في الآية، بالمهدي الموعود المنتظر (سلام الله عليه) والذي نعتقد بحياته وخفائه عن الأنظار، وهذا لا ينافي ما ذكرناه بشأن معنى الغيب، لأن الروايات الواردة في تفسير الآيات تبين غالبا مصاديق خاصة للآيات، دون أن تحدد الآيات بهذه المصاديق الخاصة، وسنرى في صفحات هذا التفسير أمثلة كثيرة لذلك.
والروايات المذكورة بشأن تفسير معنى الغيب، تستهدف في الواقع توسيع نطاق معنى الإيمان بالغيب، ليشمل حتى الإيمان بالمهدي المنتظر (عليه السلام) ويمكننا القول أن الغيب له معنى واسع قد نجد له بمرور الزمن مصاديق جديدة.
أما العلامة في تفسير الميزان فيقول في بحثه الفلسفي حول الآية : الإنسان البسيط في أوائل نشأته حين ما يطأ موطأ الحياة لا يرى من نفسه إلا أنه ينال من الأشياء أعيانها الخارجية من غير أن يتنبه أنه يوسط بينه وبينها وصف العلم ، ولا يزال على هذا الحال حتى يصادف في بعض مواقفه الشك أو الظن ، وعند ذلك يتنبه : أنه لا ينفك في سيره الحيوي ومعاشه الدنيوي عن استعمال العلم لا سيما وهو ربما يخطىء ويغلط في تميزاته ، ولا سبيل للخطإ والغلط إلى خارج الأعيان ، فيتيقن عند ذلك بوجود صفة العلم وهو الإدراك المانع من النقيض فيه.
ثم البحث البالغ يوصلنا أيضا إلى هذه النتيجة ، فإن إدراكاتنا التصديقية تحلل إلى قضية أول الأوائل وهي أن الإيجاب والسلب لا يجتمعان معا ولا يرتفعان معا فما من قضية بديهية أو نظرية إلا وهي محتاجة في تمام تصديقها إلى هذه القضية البديهية الأولية ، حتى إنا لو فرضنا من أنفسنا الشك فيها وجدنا الشك المفروض لا يجامع بطلان نفسه وهو مفروض ، وإذا ثبتت هذه القضية على بداهتها ثبت جم غفير من التصديقات العلمية على حسب مساس الحاجة إلى إثباتها ، وعليها معول الإنسان في أنظاره وأعماله.
فما من موقف علمي ولا واقعة عملية إلا ومعول الإنسان فيه على العلم ، حتى أنه إنما يشخص شكه بعلمه أنه شك ، وكذا ظنه أو وهمه أو جهله بما يعلم أنه ظن أو وهم أو جهل هذا.
ولقد نشأ في عصر اليونانيين جماعة كانوا يسمون بالسوفسطائيين نفوا وجود العلم ، وكانوا يبدون في كل شيء الشك حتى في أنفسهم وفي شكهم ، وتبعهم آخرون يسمون بالشكاكين قريبو المسلك منهم نفوا وجود العلم عن الخارج عن أنفسهم وأفكارهم إدراكاتهم وربما لفقوا لذلك وجوها من الاستدلال.
منها : أن أقوى العلوم والإدراكات وهي الحاصلة لنا من طرق الحواس مملوءة خطأ وغلطا فكيف بغيرها؟ ومع هذا الوصف كيف يمكن الاعتماد على شيء من العلوم والتصديقات المتعلقة بالخارج منا؟ ومنها : أنا كلما قصدنا نيل شيء من الأشياء الخارجية لم ننل عند ذلك إلا العلم به دون نفسه فكيف يمكن النيل لشيء من الأشياء؟ إلى غير ذلك من الوجوه.
والجواب عن الأول : أن هذا الاستدلال يبطل نفسه ، فلو لم يجز الاعتماد على شيء من التصديقات لم يجز الاعتماد على المقدمات المأخوذة في نفس الاستدلال ، مضافا إلى أن الاعتراف بوجود الخطإ وكثرته اعتراف بوجود الصواب بما يعادل الخطأ أو يزيد عليه ، مضافا إلى أن القائل بوجود العلم لا يدعي صحة كل تصديق بل إنما يدعيه في الجملة ، وبعبارة أخرى يدعي الإيجاب الجزئي في مقابل السلب الكلي والحجة لا تفي بنفي ذلك.
والجواب عن الثاني : أن محل النزاع وهو العلم حقيقته الكشف عن ما وراءه فإذا فرضنا أنا كلما قصدنا شيئا من الأشياء الخارجية وجدنا العلم بذلك اعترفنا بأنا كشفنا عنه حينئذ ، ونحن إنما ندعي وجود هذا الكشف في الجملة ، ولم يدع أحد في باب وجود العلم : أنا نجد نفس الواقع وننال عين الخارج دون كشفه ، وهؤلاء محجوجون بما تعترف به نفوسهم اعترافا اضطراريا في أفعال الحياة الاختيارية وغيرها ، فإنهم يتحركون إلى الغذاء والماء عند إحساس ألم الجوع والعطش ، وكذا إلى كل مطلوب عند طلبه لا عند تصوره الخالي ، ويهربون عن كل محذور مهروب عنه عند العلم بوجوده لا عند مجرد تصوره ، وبالجملة كل حاجة نفسانية ألهمتها إليهم إحساساتهم أوجدوا حركة خارجية لرفعها ولكنهم عند تصور تلك الحاجة من غير حاجة الطبيعة إليها لا يتحركون نحو رفعها ، وبين التصورين فرق لا محالة ، وهو أن أحد العلمين يوجده الإنسان باختياره ومن عند نفسه والآخر إنما يوجد في الإنسان بإيجاد أمر خارج عنه مؤثر فيه ، وهو الذي يكشف عنه العلم ، فإذن العلم موجود وذلك ما أردناه.
الإمام الرضا (ع) وصناعات الجذب لعالم الغيب :
تميّز الإمام الرضا (ع) بأنه جذب القلوب ناحية الدين الإسلامي والقيم المحمدية ، والخصال المعصومية ، فكان بحق أنيس النفوس .
تميّز منهج الإمام الرضا (ع) بأن رأفته ظاهرة تمام الظهور ، وكما يقول العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قدس) :
إنّ لكلّ الأئمة (عليهم السلام) ، ألطافاً وعناية ، إلّا أنّ ما يميّز لطف الإمام الرضا (عليه السلام) / أنّه يكون ملموساً ومحسوساً من قبل الإنسان.
ويضيف في مكان آخر : كلّ الأئمة (عليهم السلام) ، رؤوفون لكن ما يميّز رأفة حضرة الإمام الرضا (عليه السلام) بأنّها تكون ظاهرة ، فعندما يدخل الإنسان إلى الحرم الرضوي يشاهد بأنّ الرأفة تشعّ حتّى من الجدران والأبواب.
صناعة العلم :
إن الشيء البارز في شخصية الإمام الرضا ( عليه السلام ) هو إحاطته التامة بجميع أنواع العلوم والمعارف .
فقد كان ( عليه السلام ) - بإجماع المؤرخين والرواة - أعلمَ أهلِ زمانه ، وأفضلَهُم ، وأدراهُم بأحكام الدين ، وعلوم الفلسفة ، والطب ، وغيرها من سائر العلوم .
وقد تحدث أبو الصلت الهروي عن سعة علومه ( عليه السلام ) ، وكان مرافقاً له يقول : ما رأيت أعلم من علي بن موسى الرضا ( عليه السلام ) ، ما رآه عالم إلا شهد له بمثل شهادتي .
وقد جمع المأمون في مجالس له عدداً من علماء الأديان ، وفقهاء الشريعة ، والمتكلمين ، فَغَلَبَهُم ( عليه السلام ) عن آخرهم ، حتى ما بقي منهم أحد إلا أقرَّ له بالفضل ، وأقرَّ له على نفسه بالقصور .
إذن ، فإن الإمام الرضا ( عليه السلام ) كان أعلم أهل زمانه ، كما كان المرجع الأعلى في العالم الإسلامي ، الذي يرجع إليه العلماء والفقهاء فيما خفي عليهم من أحكام الشريعة ، والفروع الفقهية .
ويقول إبراهيم بن العباس : ما رأيت الرضا ( عليه السلام ) يسأل عن شيء قَطّ إلا علم ، ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان الأول إلى وقته وعصره ، وكان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كل شيء ، فيجيب ( عليه السلام ) .
وقد دلت مناظراته ( عليه السلام ) في خراسان والبصرة والكوفة حيث سُئِل عن أعقد المسائل ، فأجاب ( عليه السلام ) عنها جواب العالم الخبير المتخصص .
وقد أذعنت له جميع علماء الدنيا - في عصره - وأقروا له بالفضل والتفوق عليهم .
وظاهرة أخرى له ( عليه السلام ) وهي إحاطته الشاملة بجميع اللغات ، ويَدلُّ على ذلك ما رواه أبو إسماعيل السندي قال :
سمعت بالهند أن لله في العرب حجة ، فخرجت في طلبه ، فَدُلِّلْتُ على الرضا ( عليه السلام ) .
فقصدته وأنا لا أحسن العربية ، فَسَلَّمتُ عليه بالسندية ، فَردَّ عليَّ بِلُغَتِي ، فجعلت أُكلِّمه بالسندية وهو يردُّ عليّ بها .
وقلت له : إني سمعت أن لله حجة في العرب فخرجت في طلبه ، فقال ( عليه السلام ) : ( أنا هو ) .
ثم قال ( عليه السلام ) لي : ( سَلْ عما أردته ) .
فسألته عن مسائل فأجابني عنها بِلُغَتِي ، وقد أكد هذه الظاهرة الكثيرون ممن اتصلوا بالإمام ( عليه السلام ) .
يقول أبو الصلت الهروي : كان الرضا ( عليه السلام ) يكلم الناس بلغاتهم ، فقلت له : في ذلك فقال : ( يا أبا الصلت أنا حجة الله على خلقه ، وما إن الله ليتخذ حجة على قوم وهو لا يعرف لغاتهم ، أَوَ مَا بلغَكَ قول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : أوتِينَا فَصلَ الخطاب ، وهل هو إلا معرفته اللغات ) .
أكد الإمام الرضا (ع) في صناعته للعلم على عدة أمور منها :
الدقة العلمية :
توجد الكثير من القصص في ذلك عقائدية وفقهية وأخلاقية وتربوية من ذلك ما ورد في كتاب الصفواني أنه قال الرضا (ع) لابن قرة النصراني: ما تقول في المسيح قال: يا سيدي انه من الله، فقال: ما تريد بقولك من؟ ومن على أربعة أوجه لا خامس لها أتريد بقولك من كالبعض من الكل فيكون مبعضا، أو كالخل من الخمر فيكون على سبيل الاستحالة، أو كالولد من الوالد فيكون على سبيل المناكحة، أو كالصنعة من الصانع فيكون على سبيل المخلوق من الخالق أو عندك وجه آخر فتعرفناه؟ فانقطع .
العلم طريق للدين ويتكامل معه :
في حواراته العظيمة الباهرة كان العلم الرضوي مفتاحاً للقلوب التائهة والنفوس الضائعة فأرشدها بحنانه ولطفه وأنارها ببراهينه الناصعة وحديثه البديع الذي يحوي القلوب جمالاً وعطفاً .
فكانت حواراته تتسم بأنها حوارات هادئة تقدّم علماً لتفتح للنفوس طريقاً لاحباً واضحاً لا يمكن نكرانه بحقانية الدين .
الحوار الهادئ الرصين :
أُتيحت له ( عليه السلام ) فرصة المناظرة مع المخالفين على اختلاف مذاهبهم ، فظهرَ بُرهانه ( عليه السلام ) وعلا شأنُه ، ويقف على ذلك من اطَّلع على مناظراته واحتجاجاته مع هؤلاء ، والأمثلة كثيرة منها :
دخل أبو قُرَّة المحدِّث على أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) فقال : رَوينا أنَّ الله قسَّم الرؤية والكلام بَين نبيَّين ، فقسَّم لموسى ( عليه السلام ) الكلام ، ولِمُحمَّدٍ ( صلى الله عليه وآله ) الرؤية .
فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : ( فَمَنْ المُبَلِّغ عَنِ اللهِ إِلَى الثَّقَلَينِ الجِنَّ والإِنْس ، إنَّه : ( لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ) ـ الأنعام : 103 ـ وَ : ( لاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) ـ طه : 110 ـ وَ : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) ) الشورى : 11 .
فقال أبو قُرةَّ : أَلَيسَ مُحمَّد ( صلى الله عليه وآله ) قال : ( بَلَى ، يَجِيءُ رَجُلٌ إلى الخَلْقِ جَميعاً ، فَيُخْبِرُهُم أنَّهُ جَاءَ مِنْ عِندِ اللهِ ، وَأنَّهُ يَدْعُوهُم إلى اللهِ ) ؟ .
فقال الإمام الرضا ( عليه السلام ) : ( فَكَيفَ بِأمْرِ اللهِ ؟ فيقول : ( لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ) ، وَ : ( لاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) ، وَ : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) .
ثم يقول : أنَا رأيْتُهُ بِعَينِي وأحَطْتُ بِهِ عِلْماً ، وَهو عَلَى صُورَةِ البَشَر ، أمَا تَستَحيُون ؟! مَا قَدرَتْ الزَّنَادِقَة أنْ تَرمِيهِ بِهَذا : أنْ يَكونَ آتياً عَنِ الله بِأمْرٍ ثُمَّ يَأتي بِخِلافِهِ مِنْ وَجْهٍ آخرٍ ) .
فقال أبو قرة : فإنه يقول : ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ) النجم : 13 .
فقال الإمام الرضا ( عليه السلام ) : ( إنَّ بَعد هَذِه الآيَة مَا يَدُلُّ عَلى مَا رَأى ، حَيثُ قَالَ : ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) النجم : 11.
يَقُولُ : مَا كَذَبَ فُؤَادُ مُحَمَّدٍ ( صَلَّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ ) مَا رَأَتْ عَيْنَاهُ ، ثُمَّ أخْبَرَ بِمَا رَأَى ، فقال : ( لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ) النجم : 11 .
فآيَاتُ اللهِ غَيْرُ اللهِ ، وَقَالَ : ( لاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) ، فَإِذَا رَأتْهُ الأبْصَارُ فَقَدْ أحَاطَ بِهِ العِلْمُ ، وَوَقَعَتْ المَعْرِفَةُ ) .
فقال أبو قُرَّة : فَتكذِّب بالرواية ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( إِذَا كَانَتِ الرِّوايَةُ مُخَالِفَةً للقُرآنِ كَذَّبْتُهَا ، وَمَا أجْمَعَ المُسلِمُونَ عَلَيه : إِنَّهُ لا يُحَاطُ بِهِ عِلْماً ، وَلا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ ، وَلَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ ) .
التعلّم وتجنب التعنّت :
سطّر الإمام الرضا (ع) قيم السماء وطهرها ، وربّى الأمة على آداب العلم وقيمه الناصعة وحذّر من الغرور والجدل والتعنّت في العلم والتعلّم والجدال للغلبة وسوء الأدب ، والنماذج في ذلك كثيرة منها :
عيون أخبار الرضا (ع): أبي وابن الوليد معا، عن محمد العطار وأحمد بن إدريس معا، عن الأشعري، عن ابن هاشم، عن داود بن محمد النهدي، عن بعض أصحابنا قال: دخل ابن أبي سعيد المكاري على الرضا عليه السلام فقال له: أبلغ الله من قدرك أن تدعي ما ادعى أبوك؟ فقال له: مالك أطفأ الله نورك وأدخل الفقر بيتك أما علمت أن الله عز وجل أوحى إلى عمران عليه السلام أني واهب لك ذكرا، فوهب له مريم، ووهب لمريم عيسى عليه السلام فعيسى من مريم ومريم من عيسى وعيسى ومريم عليهما السلام شئ واحد وأنا من أبي وأبي مني وأنا وأبي شئ واحد، فقال له ابن أبي سعيد فأسألك عن مسألة؟ فقال: لا إخالك تقبل مني ولست من غنمي، ولكن هلمها.
فقال: رجل قال عند موته: كل مملوك لي قديم فهو حر لوجه الله عز وجل فقال: نعم، إن الله تبارك وتعالى يقول: في كتابه " حتى عاد كالعرجون القديم " (3) فما كان من مماليكه أتى له ستة أشهر فهو قديم حر. قال: فخرج الرجل فافتقر حتى مات، ولم يكن عنده مبيت ليلة. لعنه الله .
اقتران العلم بالتواضع :
وهي مسألة مهمة في عصر التمدد المعلوماتي ، حيث يحتاج المؤمن للتواضع كحاجته للعلم ، حيث ذكرت كثير من القصص منها :
عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عبد الله بن الصلت، عن رجل من أهل بلخ قال: كنت مع الرضا (عليه السلام) في سفره إلى خراسان فدعا يوما بمائدة له فجمع عليها مواليه من السودان وغيرهم فقلت: جعلت فداك لو عزلت لهؤلاء مائدة؟ فقال: مه إن الرب تبارك وتعالى واحد والام واحدة والأب واحد والجزاء بالاعمال.
ما ذكر ابن الشهرزوري في مناقب الأبرار: ان معروف الكرخي كان من موالي علي بن موسى الرضا وكان أبواه نصرانيين فسلما معروفا إلى المعلم وهو صبي فكان المعلم يقول له: قل ثالث ثلاثة، وهو يقول: بل هو الواحد، فضربه المعلم ضربا مبرحا فهرب ومضى إلى الرضا (ع) وأسلم على يده، ثم إنه أتى داره فدق الباب فقال أبوه من بالباب؟ فقال: معروف، فقال: على أي دين؟ قال: على ديني الحنيفي، فأسلم أبوه ببركات الرضا. قال معروف: فعشت زمانا ثم تركت كلما كنت فيه إلا خدمة مولاي علي بن موسى الرضا عليه السلام.
صناعة العزة الإيمانية :
مثّل الإمام الرضا (ع) العزة الإيمانية رغم الحصار المضروب عليه من قبل السلطة العباسية التي كانت ترصد أنفاسه وتحيطه بالتضييق وما خدعة ولاية العهد إلا لكي تحاصره وتجعله تحت الرصد الدقيق لفصله عن قواعده العامة في بلاد نائية في أقصى العالم الإسلامي حينها وهي مرو ، ورغم كل ذلك تجلت عزة الإمامة والإيمان بكل وضوح .
فقد أخبر الإمام الرضا ( عليه السلام ) عن كثير من الملاحم والأحداث قبل وقوعها ، وتحققت بعد ذلك على الوجه الأكمل الذي أخبر ( عليه السلام ) به .
وهذا يؤكد - بصورة واضحة - أصالة ما تذهب إليه الشيعة من أن الله تعالى قد منح أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) المزيد من الفضل والعلم ، كما منح رُسله ( صلوات الله عليهم أجمعين ) ، ومن بين ما أخبر ( عليه السلام ) به ما يلي :
أولاً :روى الحسن بن بشار قال : قال الرضا ( عليه السلام ) : ( إن عبد الله - يعني المأمون - يقتل محمداً - يعني الأمين - ) .
فقلت له : عبد الله بن هارون يقتل محمد بن هارون .
قال ( عليه السلام ) : ( نعم ، عبد الله الذي بخراسان يقتل محمد بن زبيدة الذي هو ببغداد ) .
وكان يتمثل بهذا البيت :
وإن الضغن بعد الضغن يفشو عليك ويخرج الداء الدَّفينا
ولم تمضِ الأيام حتى قتل المأمون أخاه الأمين .
ثانياً :ومن بين الأحداث التي أخبر ( عليه السلام ) عنها : أنه لما خرج محمد بن الإمام الصادق ( عليه السلام ) بِمَكَّة ودعا الناس إلى نفسه ، وخلع بيعة المأمون ، قصده الإمام الرضا ( عليه السلام ) .
فقال له : يا عَم ، لا تُكَذِّب أباك ، ولا أخاك - يعني الإمام الكاظم ( عليه السلام ) - فان هذا الأمر لا يتم .
ثم خرج ولم يلبث محمد إلا قليلاً حتى لاحقته جيوش المأمون بقيادة الجلودي ، فانهزم محمد ومن معه ، ثم طلب الأمان ، فآمنه الجلودي .
ثم صعد المنبر وَخَلَع نفسه وقال : إن هذا الأمر للمأمون وليس لي فيه حق .
ثالثاً :روى الحسين نجل الإمام الكاظم ( عليه السلام ) قال : كُنَّا حول أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) ونحن شبان من بني هاشم ، إذ مَرَّ علينا جعفر بن عمر العلوي وهو رَثُّ الهيئة ، فنظر بعضنا إلى بعض وضحكنا من هيئته .
فقال الرضا ( عليه السلام ) : ( لَتَرَوُنَّهُ عن قريبٍ كثير المال ، كثير التبَع ) .
فما مضى إلا شهر ونحوه حتى وَلِيَ المدينة ، وَحَسُنَتْ حَالُه .
عيون أخبار الرضا (ع): الوراق والمكتب وحمزة العلوي والهمداني جميعا، عن علي عن أبيه، عن الهروي وحدثنا جعفر بن نعيم بن شاذان، عن أحمد بن إدريس، عن إبراهيم بن هاشم عن الهروي قال: رفع إلى المأمون أن أبا الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام يعقد مجالس الكلام، والناس يفتتنون بعلمه، فأمر محمد بن عمرو الطوسي حاجب المأمون فطرد الناس عن مجلسه وأحضره، فلما نظر إليه زبره واستخف به فخرج أبو الحسن الرضا عليه السلام من عنده مغضبا وهو يدمدم بشفتيه ويقول: وحق المصطفى والمرتضى وسيدة النساء لأستنزلن من حول الله عز وجل بدعائي عليه ما يكون سببا لطرد كلاب أهل هذه الكورة إياه واستخفافهم به، و بخاصته وعامته.
ثم إنه عليه السلام انصرف إلى مركزه واستحضر الميضأة وتوضأ وصلى ركعتين وقنت في الثانية فقال:
اللهم يا ذا القدرة الجامعة، والرحمة الواسعة، والمنن المتتابعة والآلاء المتوالية، والأيادي الجميلة، والمواهب الجزيلة، يا من لا يوصف بتمثيل، ولا يمثل بنظير، ولا يغلب بظهير، يا من خلق فرزق، وألهم فأنطق، وابتدع فشرع، وعلا فارتفع، وقدر فأحسن وصور فأتقن، واحتج فأبلغ، وأنعم فأسبغ، وأعطى فأجزل يا من سما في العز ففات خواطر الابصار، ودنا في اللطف فجاز هواجس الأفكار، يا من تفرد بالملك فلا ند له في ملكوت سلطانه وتوحد بالكبرياء فلا ضد له في جبروت شأنه، يا من حارت في كبرياء هيبته دقائق لطائف الأوهام، وحسرت دون إدراك عظمته خطائف أبصار الأنام، يا عالم خطرات قلوب العالمين، ويا شاهد لحظات أبصار الناظرين، يا من عنت الوجوه لهيبته، وخضعت الرقاب لجلالته، ووجلت القلوب من خيفته، وارتعدت الفرائص من فرقه يا بدئ يا بديع يا قوي يا منيع يا علي يا رفيع، صل على من شرفت الصلاة بالصلاة عليه، وانتقم لي ممن ظلمني، واستخف بي وطرد الشيعة عن بابي، وأذقه مرارة الذل والهوان كما أذاقنيها، واجعله طريد الأرجاس، وشريد الأنجاس.
قال أبو الصلت عبد السلام بن صالح الهروي: فما استتم مولاي عليه السلام دعاءه حتى وقعت الرجفة في المدينة، وارتج البلد، وارتفعت الزعقة والصيحة، واستفحلت النعرة، وثارت الغبرة، وهاجت القاعة، فلم أزايل مكاني إلى أن سلم مولاي عليه السلام فقال لي: يا أبا الصلت اصعد السطح فإنك سترى امرأة بغية عثة رثة، مهيجة الأشرار، متسخة الاطمار، يسميها أهل هذه الكورة سمانة، لغباوتها وتهتكها قد أسندت مكان الرمح إلى نحرها قصبا، وقد شدت وقاية لها حمراء إلى طرفه مكان اللواء، فهي تقود جيوش القاعة، وتسوق عساكر الطغام إلى قصر المأمون ومنازل قواده.
فصعدت السطح فلم أر إلا نفوسا تنتزع بالعصا، وهامات ترضخ بالأحجار ولقد رأيت المأمون متدرعا قد برز من قصر الشاهجان متوجها للهرب، فما شعرت إلا بشاجرد الحجام قد رمى من بعض أعالي السطوح بلبنة ثقيلة فضرب بها رأس المأمون، فأسقطت بيضته بعد أن شقت جلدة هامته.
فقال لقاذف اللبنة بعض من عرف المأمون: ويلك أمير المؤمنين فسمعت سمانة تقول: اسكت لا أم لك ليس هذا يوم التميز والمحاباة، ولا يوم إنزال الناس على طبقاتهم، فلو كان هذا أمير المؤمنين لما سلط ذكور الفجار على فروج الابكار. وطرد المأمون وجنوده أسوء طرد بعد إذلال واستخفاف شديد .
صناعة طرق القرب الإلهي :
من أبرز خصوصيات الإمام الرضا ( عليه السلام ) انقطاعه إلى الله تعالى ، وتمسكه به .
وقد ظهر ذلك في عبادته التي مثلت جانباً كبيراً من حياته الروحية التي هي نور وتقوى وورع .
حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني رحمه الله قال: حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن عبد السلام بن صالح الهروي قال:
جئت إلى باب الدار التي حبس فيها الرضا عليه السلام بسرخس وقد قيد عليه السلام، فاستأذنت عليه السجان، فقال: لا سبيل لك إليه عليه السلام، قلت: ولم؟ قال: لأنه ربما صلى في يومه وليلته ألف ركعة وإنما ينفتل من صلاته ساعة في صدر النهار وقبل الزوال وعند إصفرار الشمس فهو في هذه الأوقات قاعد في مصلاه ويناجي ربه، قال: فقلت له: فاطلب لي منه في هذه الأوقات إذنا عليه فاستأذن لي، فدخلت عليه وهو قاعد في مصلاه متفكرا قال أبو الصلت: فقلت له: يا بن رسول الله (ص) ما شئ يحكيه عنكم الناس؟ قال: وما هو؟ قلت: يقولون أنكم تدعون أن الناس لكم عبيد فقال: اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت شاهد بأني لم أقل ذلك قط ولا سمعت أحدا من آبائي عليهم السلام قاله قط وأنت العالم بما لنا من المظالم عند هذه الأمة وأن هذه منها ثم أقبل علي فقال لي: يا عبد السلام إذا كان الناس كلهم عبيدنا على ما حكوه عنا فممن نبيعهم؟ قلت:
يا بن رسول صدقت ثم قال يا عبد السلام أمنكر أنت لما أوجب الله تعالى لنا من الولاية كما ينكره غيرك؟ قلت: معاذ الله بل أنا مقر بولايتكم.
يقول بعض جماعته ( عليه السلام ) : ما رأيته قط إلا ذكرتُ قوله تعالى : ( كَانُوا قَلِيلاً فِي اللَّيلِ مَا يَهجَعُونَ ) الذاريات : 17.
ويقول الشبراوي عن عبادته ( عليه السلام ) : إنه كان صاحب وضوء وصلاة ، وكان ( عليه السلام ) في ليله كُلِّهِ يتوضأ ويصلي ويرقد ، وهكذا إلى الصباح .
وقد كان الإمام ( عليه السلام ) أتقى أهل زمانه ، وأكثرهم طاعة لله تعالى .
فيروي رجاء بن أبي الضحَّاك عن عبادة الإمام ( عليه السلام ) - وكان المأمون قد بعثه إلى الإمام ( عليه السلام ) ليأتي به إلى خُراسان ، فكان معه من المدينة المنورة إلى مرو - يقول : ( والله ما رأيت رجلاً كان أتقى لله منه ( عليه السلام ) ، ولا أكثر ذِكراً له في جميع أوقاته منه ، ولا أشد خوفا لله عزَّ وجلَّ .
كان ( عليه السلام ) إذا أصبح صلَّى الغداة ، فإذا سلَّم جلس في مُصَلاَّه يُسَبِّح الله ، ويحمده ، ويُكبِّره ، وَيُهَلِّله ، ويصلي على النبي وآله ( صلى الله عليه وآله ) حتى تطلع الشمس .
ثم يسجد ( عليه السلام ) سجدةً يبقى فيها حتى يتعالى النهار ، ثم يقبل على الناس يحدثهم ، ويعظهم إلى قُرب الزوال ، ثم جدد وضوءه ، وعاد إلى مُصَلاَّه .
فإذا زالت الشمس قام ( عليه السلام ) وصلى ست ركعات ، ثم يؤذّن ، ثم يصلي ركعتين ، ثم يقيم ويصلي الظهر ، فإذا سَلَّم سَبَّح الله وحمده ، وكبره ، وهَلَّله ما شاء الله .
ثم يسجد ( عليه السلام ) سجدة الشكر ويقول فيها مائة مرة : شكراً لله ، فإذا رفع رأسه قام فصلى ست ركعات ، ثم يؤذن .
ثم يصلي ( عليه السلام ) ركعتين فإذا سلم قام وصلى العصر ، فإذا سَلَّم جلس في مُصَلاَّه يسبح الله ، ويحمده ، ويكبِّره ، ويُهَلِّله ، ثم يسجد سجدة يقول فيها مائة مرة : حَمْداً لله .
فإذا غابت الشمس توضأ ( عليه السلام ) وصلَّى المغرب ثلاثاً بأذان وإقامة ، فإذا سلَّم جلس في مُصلاَّه يُسبِّح الله ، ويحمده ، ويُكبِّره ، ويُهَلِّله ما شاء الله ، ثم يسجد سجدة الشكر ، ثم يرفع رأسه ولا يتكلم حتى يقوم ويصلي أربع ركعات بِتَسلِيمَتَين ، ثم يجلس بعد التسليم في التعقيب ما شاء الله حتى يُمسِي .
ثم يفطر ( عليه السلام ) ، ثم يَلبث حتى يَمضي من الليل قريب من الثـلث ، ثم يقوم فيصلي العشاء والآخرة أربع ركعات ، فإذا سَلَّم جلس في مُصَلاَّه يذكر الله عزَّ وجلَّ ، ويُسبِّحه ، ويحمده ، ويُكبِّره ، ويُهَلِّله ما شاء الله ، ويسجد بعد التعقيب سجدة الشكر ثم يأوي إلى فراشه .
وإذا كان الثلث الأخير من الليل قام ( عليه السلام ) من فراشه بالتسبيح ، والتحميد ، والتكبير ، والتهليل ، والاستغفار ، فَاسْتَاكَ ثم توضأ ، ثم قام إلى صلاة الليل ، ويصلي صلاة جعفر بن أبي طالب ، ويحتسب بها من صلاة الليل ، ثم يصلي الركعتين الباقيتين .
ثم يقوم ( عليه السلام ) فيصلي ركعتَي الشفع ، ثم يقوم فيصلي الوَتْر ، ويقول في قنوته : ( اللَّهم صَلِّ على محمد وآل محمد ، اللَّهم اهدِنَا فيمن هديت ، وعَافِنَا فيمن عافيت ) .
ثم يقول ( عليه السلام ) : ( أستغفرُ الله وأسألُه التوبة ) ، سبعين مرة ، وإذا قرب الفجر قام فَصلَّى ركعتَي الفجر ، فإذا طلع الفجر أَذَّن وأقامَ وصَلَّى الغداة ركعتين ، فإذا سَلَّم جلس في التعقيب حتى تطلع الشمس ، ثم سجد سجدة الشكر حتى يتعالى النهار .
فهذه هي صلاة الإمام الرضا ( عليه السلام ) المفروضة ونوافلها ، وما يقرأ فيها من سور القرآن الكريم ، والتعقيبات التي يؤديها.
ومعنى ذلك أنه ( عليه السلام ) كان في أغلب أوقاته مشغولاً بعبادة الله ، فإنه ( عليه السلام ) قد سَرى حُبُّ الله في قلبه ، وتفاعل في عواطفه ومشاعره حتى صار عنصراً من عناصره ، وخصوصية من خصوصياته ( عليه السلام ) .
يقول ابراهيم بن العباس"" ما رايت ولا سمعت بأحد افضل من أي الحسن الرضا عليه السلام:
1 ما جفا أحد قط .
2 ولا قطع على أحد كلامه .
3 ولا ردّ أحدا عن حاجته .
4 وما مد رجليه بين جليسه .
5 ولا اتكأ قبله .
6 ولا شتم مواليه ومماليكه .
7 ولا قهقه في ضحكة .
8 وكان يجلس على مائدته ومماليكه ومواليه .
9 قليل النوم بالليل يحي أكثر لياليه من أولها إلى آخرها .
10 كثير المعروف والصدقة وأكثر ذلك في الليالي المظلمة"" .
وفد على الإمام الرضا ( عليه السلام ) رجل فَسلَّم عليه وقال له : أنا رجل من مُحبِّيك ومحبِّي آبائك ، ومصدري من الحج ، وقد نفذت نفقتي ، وما معي ما أبلغ مرحلة ، فإن رأيت أن ترجعني إلى بلدي فإذا بلغت تصدقت بالذي تعطيني عنك .
فقال ( عليه السلام ) له : ( اِجلس رحمك الله ، وأَقبلَ على الناس يحدثهم حتى تفرقوا ) .
وبقي هو وسليمان الجعفري ، وحيثمة ، فاستأذن الإمام منهم ودخل الدار ثم خرج ، وَرَدَّ الباب ، وخرج من أعلى الباب ، وقال ( عليه السلام ) : ( أين الخراساني ) .
فقام إليه فقال ( عليه السلام ) له : ( خذ هذه المائتي دينار واستعِن بها في مؤنتك ونفقتك ، ولا تتصدق بها عني ) .
فانصرف الرجل مسروراً قد غمرته نعمة الإمام ( عليه السلام ) ، والتفت إليه سليمان فقال له : جُعلت فداك ، لقد أجزلت ورَحِمت ، فلماذا سَترتَ وجهك عنه .
فَأجابهُ ( عليه السلام ) : ( إِنَّما صنعتُ ذلك ، مخافة أن أرى ذُلَّ السؤال في وَجهِهِ لِقضَائِي حاجتَهُ ، أما سمعت حديث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : المُستَتِرُ بالحسنة تعدل سبعين حجة ، والمُذِيعُ بالسيِّئةِ مَخذُول .
أما سمعت قول الشاعر : مَتى آَتِهِ يَوماً لأَطلبَ حَاجَةً ** رَجِعتُ إِلَى أَهلِي وَوَجهِي بِمَائِهِ ) .
وما قصائد الشعراء إلا جذبة من جذباته البهية التي أخذت بألبابهم حتى جعلتهم ينظمون بدائع القصائد الرضوية .
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين